موقع ملتزم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح بعيداً عن التعصب

متى تكون المشاركة السياسية ممكنة ومجدية

0 1٬314
متى تكون المشاركة السياسية ممكنة ومجدية
 

بسم الله الرحمن الرحيم

          الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد.

          الإسلامُ دينُ الله، حقّه أن يقودَ ولا يُقاد، جعل من الدنيا بكل جوانبها سلّماً للآخرة، وميداناً لأحكامه وتقريراته، جاء ليحكم، وليسوس البلاد والعباد بتعاليم رب العِباد [وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ]الزخرف:84. ومع ذلك هناك توجه يدعو للاعتزال الكلي للعمل السياسي، وفصل الدين والدعوة عن السياسة، والعمل السياسي، وهؤلاء علمانيون، أو قد وافقوا العلمانيين في توجههم وقولهم الباطل .. وفريق آخر؛ غلبت عليهم شهوة الحكم وحب الرياسة، يرون المشاركة في العمل السياسي، على أي وجه كان، وكانت النتائج، ولو كان ذلك على حساب ثوابت ومبادئ الدين، وفيه ضياع لمصالح البلاد والعباد، وتكريس لحكم وظلم الطغاة الظالمين .. وهناك فريق وسط بينهما؛ تكون السياسة والعمل السياسي، من جملة برامجه واهتماماته ودعوته، ومشاركته تكون وفق ضوابط وشروط، يتوخّى فيها مصلحة الدين والدّنيا معاً .. وهو الذي نراه صائباً.

          من أهم هذه الضوابط والشّروط للمشاركة في الحياة السياسية:

  • أن لا يكون الحاكِمُ أو الملِكُ ــ مهما اشتدّ فسادُه أو ظلمه ــ فوقَ المساءلة والمحاكمة أو أن يُقادَ منه .. والقوانين تحميه وظلمه وفساده ــ وتحمي حاشيته المقربين ــ من المساءلة والمحاسبة .. فحينئذ لا جدوى من المشاركة ولا الإصلاح السياسي في ظل حكم يعلوه حاكم يتمتع فساده وظلمه بالحصانة القانونية، ويُعرّض السائل والمحاسب المصلح إلى الطرد وأشد أنواع العقوبة، كما هو معمول به في بعض البلدان والأنظمة العربية!
  • أن لا يكون الحاكِمُ أو الملِكُ من الطغيان والظلم، والتسلط، والجبروت ما يمكنه من تعطيل أي عملية إصلاح ضرورية تتعارض مع أهوائه، ومصالحه الذاتية .. والمصلح ــ وإن صلحت نيته ــ لن يعدو في تلك الحالة عن كونه عكّازة من جملة عكاكيزه التي يتكئ عليها في ظلمه وفساده .. فالمشاركة السياسية حينئذٍ في ظل حكم أو نظام يعلوه هكذا طاغية تكون من العبث، والضياع، ويترتب عليها التفريط بكثير من الحقوق والمصالح!
  • أن يكون الإصلاح ممكناً وشاملاً لجميع جوانب الحكم، والقانون، والحياة، وإن استغرق ذلك زمناً من المجاهدة .. ويكون بمقدور المصلحين المشاركين في العملية السياسية أن يمارسوا دورهم القيادي على أعلى المستويات، فلا يوجد ما يمنعهم أو يصدهم عن ذلك، كذلك أن يكون بمقدورهم أن يغيروا من فساد ومنكر الحاكم، والقانون معاً، ويكون ذلك متاحاً لهم، يحيث لا يوجد منكر مهما على شأنه أو كان نوعه يتمتّع بحصانة قانونية تمنع من إنكاره أو تغييره، ولو وجد كان بمقدورهم إنكاره وتغييره، ولو استغرق ذلك منهم زمناً.
  • أن يكون أسلَمَت الحُكم أو النظام الحاكم، والقانون، والمجتمع هو الغاية من المشاركة السياسية؛ إذ أن مصالح البلاد والعباد ــ والتي منها تحقيق الحرية، والعدالة، والعزة، والكرامة ــ متوقفة على ذلك، ومحصورة في الإسلام وتعاليمه .. ويكون المصلحون صادقين في ذلك، إذ لا يليق قبل التمكين أن يرفع المصلحون أو من يستشرفون مهمة الإصلاح شعار “الإسلام هو الحل“، ثم هم بعد التمكين ينكثون العهود، وينقضون ما قطعوه على أنفسهم من وعود أمام الله والناس، فيستبدلون شعارهم بشعار “العلمانية والليبرالية هي الحل“، ويطيب لهم إقرار المنكرات، والسكوت عنها، وهؤلاء يصدق فيهم قوله تعالى:[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ]الصف:2-3.
  • أن لا يُعتمَد في المشاركة السياسية وسائل شركية، تؤدي إلى إقرار الشّرك، ومباركة الشرك، وتأليه المخلوق، وتعبيد العبيد للعبيد، وردّ خاصيّة التّحليل والتّحريم للعبيد من دون الله أو مع الله .. كما قال تعالى: [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ]الشورى:21. وقال تعالى: [وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً]الكهف:26. وقال تعالى: [إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ]يوسف:40. وقال تعالى: [ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ]غافر:12. وقال تعالى:[اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ]التوبة:31. وذلك عندما رضوا بأن يحلوا لهم ما حرّم الله، ويحرموا عليهم ما أحل الله، فتلك كانت ربوبيتهم، وبذلك اتخذوهم أرباباً من دون الله.

             وكذلك قوله تعالى:[قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ]آل عمران:64. هكذا ينبغي أن نقول ــ كما أمرنا الله ــ لجميع من يخالفنا، ومن أي ملة كانوا:[وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ]؛ نحلّل ونحرم من دون الله، وبغير سلطان من الله .. فإن تَولّوا وأبَوا إلا الشرك، وأن يتخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، لن نشاركهم الشرك وادعاء الربوبية من دون الله، وإنما نبرأ من شركهم، ونعتزله، ونقول:[اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ].

             فالشرك ظلم عظيم، يُحبط الأجر والعمل معاً، كما قال تعالى:[ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ]لقمان:13. وقال تعالى:[إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً]النساء:48. وقال تعالى: [إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ]المائدة:72. وقال تعالى: [لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ]الزمر:65. وقال تعالى: [وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ]الأنعام:88. وقال تعالى: [وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ]الحج:31. وغيرها من الآيات التي تقرع الآذان، وتقشعر منها الأبدان، أعاذنا الله وإياكم من الشرك ما ظهر منه وما بطن، ما علمنا منه وما لم نعلم.

             ونحن دفعاً لهذا الإحراج، ولكي نضمن مشاركة سلسلة وفاعلة ومثمرة، وناجحة، كنا قد نصحنا في مقالتنا “رؤية سياسية لمستقبل سوريا السياسي“، بأن الجهد والعمل السياسي يجب أن ينصبّا ابتداء على تقنين جملة من القوانين في الدستور وغيره، تنظم العملية السياسية وتجنبها مظاهر تأليه المخلوق، وكل ما يُؤدّي إلى تعبيد العبيد للعبيد، أو يؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى أربابٍ وعبيد!

             بهذه الضوابط والشروط الآنفة الذكر أعلاه نجيز المشاركة في الحياة السياسية السائدة في الأمصار والأقطار .. وإلا فلا .. وعلى ضوء ما ذكرناه تُرانا أحياناً نقر ونؤيد المشاركة السياسية في موضعٍ، وننكرها في موضع آخر، بحسب ما يظهر لنا من تحقق لما ذكرناه من شروط وضوابط في كل موضع من المواضع .. وبالتالي لا تعارض بين الموقفين ــ ولله الحمد ــ كما يظن البعض!

          نعم، قد تترامى على الطريق بعض المصالح الزهيدة، والشَّخصيّة، تكون على حساب الثوابت، والمبادئ، والمصالح الكلية والعامة .. فتهفو إليها ذوو النفوس الضعيفة، الذين يميلون مع كل صيحة وشهوة من شهوات الظهور والشهرة، والرياسة .. ويزينونها، ويضخمونها في أعين النّاس ليعطوا لأنفسهم المبررات والمسوغات التي تبرر لهم المشاركة السياسية في التجمعات والأنظمة الفاسدة .. وهذا خطأ كبير ومزلق خطير .. فليس لأدنى مصلحةٍ يُستحسن منك أن تُبارِكَ الباطلَ وتُشارك فيه؛ فمباركتُكَ للباطلِ ومشاركتُكَ فيه وفي تجمعاته، مفسدةٌ عُظْمَى لا تَرقى لها المصالِح الشّخصيّة ولا الحزبيّة!

             ويُقال كذلك أن موقف الاعتزال، والمباينة، والمعارضة للباطل وتجمعاته عندما تتوفر دواعيه .. هو بذاته موقف سياسي، ومشاركة سياسية أكثر فاعليةً وردعاً وتحجيماً وإحراجاً للباطل وسياساته .. إضافة إلى أنه الموقف الذي ينسجم ويتوافق مع توجيهات الخطاب الشرعي ــ وهو الجانب الأهم ــ الذي يدعو إلى اعتزال الباطل وتجمعاته، عندما لا تنفع معهم محاولات النصح والإصلاح، أو عندما تُغلَق المنافذ أمام محاولات النّصح والإصلاح، كما في قوله تعالى: [وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ]مريم:48. [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً]مريم:49. [وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً]النساء:140.

             وفي الحديث فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:” ليأتينَّ عليكم أمراءٌ، يقربون شرارَ الناسِ، ويُؤخِّرون الصلاةَ عن مواقِيتها، فمن أدركَ ذلك منهم، فلا يَكونَنَّ عِرِّيفاً، ولا شرطيّاً، ولا جابياً، ولا خازِناً “[ ].

             وقال صلى الله عليه وسلم:” يليكم عمالٌ من بعدي يقولون مالا يَعلمون، ويَعملون مالا يَعرفون، فمن ناصحَهم، ووازَرَهم، وشَدَّ على أعضادِهم، فأولئك قد هلَكوا وأهلَكوا، خالِطُوهم بأجسادِكُم، وزايلوهم بأعمالِكم “[ ].

            وقال صلى الله عليه وسلم:” اسمعوا؛ هل سمعتهم أنه سيكون بعدي أمراءٌ فمن دخلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبِهم، وأعانهم على ظُلمِهم فليسَ مني ولستُ منه، وليس بواردٍ عليَّ الحوض، ومن لم يَدخُلْ عليهم ولم يُعِنْهُم على ظلمِهم ولم يُصدقهم بكذِبهم فهو مني وأنا منه، وهو واردٌ عليَّ الحوض“[ ].

             وقال صلى الله عليه وسلم:” مَن أَعانَ ظالماً بباطلٍ ليُدحِضَ بباطلِه حقَّاً، فقد بَرِئ من ذِمَّةِ الله وذِمَّةِ رسولِه “[ ].

   وقال صلى الله عليه وسلم:” إيَّاكُم وأبوابِ السلطانِ؛ فإنَّه قد أصبحَ صعباً هُبوطاً[ ]”[ ]

             وقال صلى الله عليه وسلم:” من أتى أبوابَ السُّلطانِ افتُتِنَ، وما ازدادَ أحدٌ من السُّلطان قُرباً، إلا ازدادَ من اللهِ بُعداً “[ ]. والمراد هنا بالسلطان؛ السلطان الظالم المتسلط بالجبروت.

             لا بد من أن نعترف بأن المشاركة السياسية في ظل أنظمة فاسدة .. طريق محفوف بالمكاره، والأشواك، والمخاطر .. ومَن لا يُحسن السير، واتقاء تلك المكاره، والأشواك، والمخاطر .. لا يُنصَحُ ابتداء بالسير في ذلك الطريق .. والله المستعان.

          تنبيه: هناك ما يُسمى مشاركة جزئيّة في العملية السياسية؛ وذلك عندما يُخير النّاس بين صالحٍ وطالحٍ، أو بين ظالمين، أو حتى بين كافرين يتفاوتان في درجة الظلم والكفر والفساد .. كل منهما يستشرف مواقع الحكم والقرار والتأثير .. ولا سبيل آخر للناس غير الاختيار .. وكان الفارق بينهما في الظلم والفساد والكفر كبيراً وواضحاً .. ففي مثل هذه الحالات أرجو أن لا يكون في اختيار الناس للصالح أو الأصلح، أو الأقل ظلماً، وكفراً، وفساداً ــ على نية دفع الأشد ظلماً وفساداً، وكفراً، ونية دفع أكبر الضررين والشرين بأقلهما ضرراً وشراً ــ حرجاً، كما كان ميل وتعاطف الصحابة مع النجاشي العادل حاكم الحبشة ضد مناوئيه الأشد ظلماً وخطراً، وكان ذلك قبل إسلامه، والله تعالى أعلم.

 

عبد المنعم مصطفى حليمة

أبو بصير الطرطوسي
27/2/1441 هــ . 26/10/2019 م

www.abubaseer.bizland.com

 

 

مواضيع قد تهمك:

حكم المشاركة السياسية

حكم المشاركة السياسية في الأنظمة المعاصرة

حماس والنفق المظلم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.