موقع ملتزم بالتحاكم إلى الكتاب والسنة على ضوء فهم السلف الصالح بعيداً عن التعصب

مسألة في الإكراه

0 382

س955: من اقترف الشرك أو الكفر مكرهاً فهو معذور .. ولي سؤال: لماذا لم يعذر الله سبحانه وتعالى من قرَّب ذباباً للصنم للنجاة بحياته، كما ذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه:” دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار في ذباب ..”، مع أنهما كانا في وضع إكراه، بدليل أن من لم يقرب الذباب قرباناً للصنم قتل .. وهذا كان حجة لما ذهب إليه البعض من أن الكفر المذكور في الآية:] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [ إنما يكون فقط في الكفر القولي، أما الكفر العملي ـ كالسجود لصنم ـ فلم يجز الشارع فعله تحت أي ظرف .. فما قولكم بارك الله فيكم، وما يترجح عندكم؟

الجواب: الحمد لله رب العالمين. الكفر الوارد ذكره في الآية الكريمة عام يشمل الكفر القولي والعملي سواء .. كما لا يوجد نص يخصص جواز إظهار الكفر القولي تحت الإكراه دون الكفر العملي .. فالإكراه المعتبر كما يبرر إظهار الكفر القولي فهو يبرر كذلك إظهار الكفر العملي .. ولم يستثن من الكفر تحت ظرف الإكراه سوى كفر الاعتقاد القلبي؛ لأن الإكراه سلطانه على الجوارح الظاهرة وليس على القلوب، لذلك نجد أن النص إذ عذر المكره أن يُظهر الكفر تحت الإكراه اشترط ضرورة اطمئنان القلب على الإيمان، وأن لا ينشرح بالكفر صدراً كما قال تعالى:] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النحل:106.
وقد ثبت أن الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه قد قبَّل رأس طاغية الروم مقابل أن يطلق سراحه وسراح أصحابه .. وتقبيل رأس الطاغية عمل وليس قول.
وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جيشاً كافراً يغزو الكعبة .. فيهم المكره .. يخسف الله بهم الأرض .. ولما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المكره منهم، قال صلى الله عليه وسلم:” يبعثون على نياتهم “. فخروجهم مع الجيش الكافر لغزو الكعبة المشرفة كفر عملي وليس قولي .. ولكن للإكراه عُذروا .. وحكم النبي صلى الله عليه وسلم عليهم أنهم يُبعثون على نياتهم واعتقادهم.
فإن علمت ذلك، بقي عليك أن تعلم أن حديث الذبابة الوارد ذكره في السؤال ليس فيه دليل على تخصيص الكفر القولي دون الكفر العملي ـ هذا على افتراض صحته؛ إذ أن من أهل العلم من حكم عليه بالضعف منهم الشيخ ناصر الدين الألباني ـ وإليك بيان ذلك:
يُمكن أن يُحمل الحديث ـ هذا على افتراض صحته ـ على معانٍ عدة لا تتعارض مع ما قدمناه من أن الإكراه عذر يبرر الكفر العملي كما يبرر الكفر القولي.
منها: أن هذا الذي قرب ذباباً للصنم قربه مستخفاً ومستهيناً بفعله ذاهلاً عن اعتقاده ..  لذا فهو لم يبد أدنى اعتراض أو امتعاض .. وإنما اعتذر لهم بأنه لا يملك شيئاً ليقربه .. ولما دلوه على الذباب فعل الذي طالبوه به من دون أدنى تردد .. وقبل أن يهددوه بالقتل أو أي نوع من أنواع الأذى .. والذي آثر أن يُقتل على أن لا يقرب الذباب للصنم قُتل بعده وليس قبله .. وما كان كذلك لا يكون إكراهاً معتبراً ولا يُعذر صاحبه بالإكراه.
ومنها: أن مما خص الله به أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه تعالى لم يؤاخذها بالإكراه بخلاف الأمم الأخرى فإنه كان يؤاخذها بالإكراه، كما في قوله صلى الله عليه وسلم:”إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه “. فقوله صلى الله عليه وسلم:” إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي “، دليل على تخصيص أمة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التجاوز والعفو دون غيرها من الأمم.
ومما يدل على ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، وحديثه عمن كانوا قبلنا من المسلمين:” كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون“.
فإن قيل: ولكن ثبت أن من بني إسرائيل من كان يُخفي إيمانه تحت ظروف الإكراه، وخوفاً من بطش الطاغية فرعون ..؟
أقول: أن يخفوا إيمانهم خوفاً من ظلم وبطش الطاغوت شيء .. وأن يمارسوا الكفر خوفاً
من بطش وظلم الطاغوت شيء آخر، والله تعالى أعلم.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.